منذ ما يقارب ثمانية عقود لم تستطع باكستان ترسيخ نظام مستقر لتداول السلطة، فقد تعاقب على منصب رئاسة الوزراء 22 شخصاً لم ينهِ أي منهم على الإطلاق فترة ولاية السنوات الخمس الخاصة به، وعلى الرغم من تغير الظروف واختلاف الأسباب فإن النتيجة ظلت واحدة، لم يستطع أي منهم كسر القاعدة والتحول إلى استثناء وحيد.
كان لظروف نشأة الدولة الباكستانية تأثير كبير ظل ملازماً لها بعد ذلك، فقد قسم شبه القارة الهندية عام 1947 بين المسلمين والهندوس، فانفصلت الولايات ذات الغالبية المسلمة بغرب البلاد وشرقها، وما لبث الجزءان أن انفصلا بتخطيط ودعم عسكري من الهند، وخاضت باكستان عدداً من الحروب مع الأخيرة إلى جانب عديد من التوترات الحدودية المتكررة.
أدت ظروف تقسيم الهند على أساس طائفي واحتلال الهند إقليم كشمير الباكستاني إلى ترسيخ دور الجيش كحامٍ للدولة في باكستان، فحكم الجنرالات سنوات طويلة بصورة مباشرة، ولم يغيبوا يوماً عن المشهد بصورة أو بأخرى، ولأكثر من مرة أدت المواجهات العسكرية مع الهند إلى إطاحة حاكم والإتيان بآخر، وظل دور الجيش حيوياً في قيادة الدولة مع استمرار وجود التهديد الهندي في الشرق.
داخلياً تعاظم دور الجيش في باكستان منذ عام 1958، حين نفذ الجنرال محمد أيوب خان أول انقلاب عسكري، مع العلم أن الدولة لم تشهد قبله أي انتخابات ديمقراطية. ومع تزايد المعارضة لحكمه حتى وصلت إلى ذروتها عام 1969، تنازل عن جميع سلطاته إلى الجنرال يحيى خان، ومع هزيمة الأخير في حرب 1971 تسلم ذو الفقار علي بوتو السلطة بوصفه الفائز بالغالبية في انتخابات العام السابق.
حاول بوتو تقليص نفوذ المؤسسة العسكرية، لكن الجنرال ضياء الحق انقلب عليه عام 1977 وأعدمه، وظل في الحكم حتى اغتيل عام 1988، ومنذ ذلك الحين إلى نهاية التسعينيات بلغ الصراع على السلطة ذروته، إذ تشكلت سبع حكومات، وحُل البرلمان خمس مرات، إلى أن تدخل الجيش عام 1993، ونُظمت انتخابات ديمقراطية نجح فيها نواز شريف، ولكن سرعان ما أطيح به بعد خلافات مع الجيش، ثم عاد من جديد في انتخابات عام 1997، لكن قائد الجيش برويز مشرف أطاحه بانقلاب عسكري عام 1999، وظل في السلطة حتى اضطر للاستقالة عام 2008 تحت ضغط شعبي كبير تكثف بعد مجزرة المسجد الأحمر عام 2007.
بعد رحيل برويز مشرف انتقل الحكم إلى المدنيين وانتُخب آصف علي زرداري رئيساً للجمهورية، ويوسف رضا جيلاني رئيساً لحكومة ائتلافية. وعلى رغم استمرار تداول السلطة بين المدنيين، لم تتوقف الأنظار عن التوجه إلى مقر القيادة العامة للجيش في روالبندي، وظل الجميع ينظر لرئيس أركان الجيش بصفته صانع الملوك، على الرغم من نفي الجيش المتكرر لأي تدخل له في الحياة السياسية وخلافات الأحزاب.
في عام 2013 تولى نواز شريف رئاسة الوزراء للمرة الثالثة، وحينها قاد عمران خان جماهير المحتجين في محاولة لإطاحة حكومته في سلسلة احتجاجات وصفت آنذاك بأنها مدعومة من الجيش، نظراً للعلاقة التي ربطت عمران بقادة المؤسسة العسكرية، لكن نواز شريف لم يترك السلطة إلا بعدما أدانه القضاء عام 2017، في تهم فساد كشفت عنها تسريبات ما عرفت بوثائق بنما عام 2016، فاختير شاهد خاقان عباسي لرئاسة الحكومة بصورة مؤقتة.
وحين أُجريت الانتخابات في موعدها عام 2018، فاز بها عمران خان الحائز على رضا قادة روالبندي، واكتسب حينذاك شعبية كبيرة بصفته حاكم يأتي من خارج الطبقة السياسية التي تلاحقها تهم الفساد وتتصدرها عائلتا شريف وبوتو، إذ إن مفهوم تداول السلطة في باكستان عادة ما يقتصر على تبادل تشكيل الحكومات بين حزبي الشعب بزعامة أسرة بوتو وحزب الرابطة الإسلامية بزعامة أسرة شريف فقط، في مثال صارخ على ظاهرة التوريث السياسي.
لم يكن عمران خان استثناء مما جرى لسابقيه، فجرى عليه ما جرى عليهم، فعندما تمكن من مقاليد الحكم، وأصبح يأمر وينهى تطلع إلى أن يكون حاكماً حقيقياً للدولة، وتسري قراراته على كل مؤسساتها، بما فيها المؤسسة العسكرية، فطبقاً للدستور هو قائد السلطة التنفيذية، ومن صلاحياته تعيين قادة القوات المسلحة، لكنه اصطدم بالحاجز الزجاجي الذي وضعته روالبندي، ولم يستطع كسره، بل هو الذي أطاحه في أبريل 2022، بعد أقل من أربع سنوات على بدء ولايته.
كان الاستثناء هنا هو عدم اعتراف خان بالأمر الواقع، بل أشعل البلاد بالاحتجاجات الشعبية الصاخبة، وظل يقود الجماهير الثائرة سعياً لاستعادة كرسيه المفقود، ولكن هيهات له ذلك في ظل انهيار علاقته بصناع الملوك، واستمراره في كيل الاتهامات لهم ليل نهار.
في نوفمبر 2022 تعرض خان لمحاولة اغتيال، وأصيب برصاصة في ساقه خلال مشاركته في مسيرة جماهيرية معارضة لحكومة شهباز شريف (شقيق نواز شريف). وقد اتهم عمران خان أحد قادة الجيش بتدبير المحاولة، وهو ما نفته المؤسسة العسكرية بشدة.
مع استمراره في تنظيم الفعاليات الشعبية المعارضة ضد الجيش، اتحدت الأطياف السياسية في مواجهته، وتراكمت الدعاوى القضائية ضده حتى فاق عددها الـ100، وبالطبع عدها خان كلها ذات دوافع سياسية بهدف منعه من استعادة السلطة عبر الانتخابات.
نجح خان في تجنب الاعتقال أشهراً عدة، محمياً بغطاء كثيف من مريديه وأتباعه الذين خاضوا معارك واشتباكات دامية عنيفة مع قوات الشرطة دفاعاً عن قائدهم، وما إن اعتقل في التاسع من مايو 2023 حتى انفجرت أحداث عنف راح ضحيتها قتلى وجرحى وهاجم أنصاره المنشآت الحكومية والعسكرية، واحتشد المتظاهرون في الشوارع، وكان بعضهم يرتدي أقنعة بصور عمران خان، فقطع النظام خدمات الإنترنت عبر الهواتف المحمولة وأغلق المدارس وتعرضت حركة الإنصاف (PTI) التي يقودها خان لحملة قمع شديدة.
شكلت أحداث التاسع من مايو نقطة تحول في باكستان، وتسببت في إثارة التساؤلات حول مستقبل الديمقراطية في هذا البلد، إذ أسهمت في بث الحياة في رواية المؤسسة القائلة: إن «الأمن القومي الباكستاني معرض للخطر ويجب حمايته من خلال تدابير استثنائية». وواجهت الحريات المدنية فترة عصيبة، وتعرض الصحافيون للترهيب والمضايقة والمراقبة من قبل السلطات بسبب انتقاداتهم للحكومة، واتهم بعض السياسيين والصحافيين، بموجب قانون التحريض على الفتنة الغامض والفضفاض في باكستان، الذي يستند إلى تشريعات تعود إلى الحقبة الاستعمارية، وحوكم العشرات أمام محاكم عسكرية، وواجه خان اتهامات في أكثر من 100 قضية.
شكا القضاة من تعرضهم لضغوط تتعلق بتلك القضايا، ووجه أعضاء المحكمة العليا اتهامات للاستخبارات بوضع كاميرات في غرف نومهم وتعذيب أقاربهم لجعلهم يتخذون إجراءات ضد عمران خان، وقال رئيس الوزراء السابق شهيد خاقان عباسي، إنه أمر غير مسبوق أن يعلن كبار القضاة العاملين علناً عن مزاعم تدخل وكالة الاستخبارات.
ومع اشتعال الأوضاع وتصاعدها أفرج عن عمران خان بحجة وجود خلل قانوني في إجراءات اعتقاله، وفُكك جزء كبير من حزبه، فمع ضغوط الإكراه أو الإغراءات، انسحب بعض كبار قادة حزب حركة الإنصاف الباكستاني، ثم أعادت الحكومة اعتقال خان في أغسطس 2023، دون أن يسفر ذلك عن ردود فعل عنيفة بحجم ما حصل في المرة السابقة. وفُرض حظر سياسي على خان لمنعه من الترشح لأي انتخابات، واشتدت حملة ملاحقة حزب الإنصاف الباكستاني، واعتقل الآلاف من أعضائه.
في هذه الأجواء أجرت إسلام آباد انتخابات عامة في الثامن من فبراير 2024، بعد تأجيلها من العام الماضي، وحُظر استخدام اسم حزب الإنصاف ورمزه الانتخابي في بطاقة الاقتراع، مما صعب على كثيرين التعرف على مرشحيهم. وفي يوم الانتخابات توقفت خدمة الإنترنت وشبكات المحمول، وعلى رغم ذلك ترشح السياسيون المؤيدون لخان مستقلين، وحصدوا نتائج مبهرة، وحلوا في المركز الأول متقدمين على الكتل والأحزاب الأخرى.
تحدثت وزارة الخارجية الأمريكية عن مزاعم احتيال في العملية الانتخابية، ودعت إلى إجراء تحقيق كامل في مزاعم التدخل، وفي أواخر فبراير 2024، أرسل 31 عضواً في الكونغرس الأمريكي رسالة إلى إدارة الرئيس بايدن، يدعونه فيها إلى حجب الاعتراف بالحكومة الجديدة، وذلك إلى أن يثبت التحقيق أن الانتخابات لم تكن مزورة. وفي 20 مارس 2024، ركزت جلسة استماع للكونغرس على الانتخابات الباكستانية ومستقبل ديمقراطيتها.
ومع تغييب قائدها في السجن وتحالف النخبة السياسية مع الجيش، لم يستطع حزب الإنصاف الباكستاني استثمار نصره الانتخابي الساحق، وتم التوافق على تشكيل الحكومة من دونه، وزادت هذه الأحداث من التعاطف الشعبي مع مظلوميته، وصار الحزب رمزاً لتحدي السلطة وجبروتها، وكأن قائده لم يمكث على رأس الحكم لسنوات عدة.
هكذا ظل كتالوج السياسة الباكستانية ثابتاً، فالسياسيون يصلون إلى الحكم بتفاهم مشترك مع الجيش، ثم بعد وصولهم للسلطة تبدأ الخلافات مع الجيش حتى يطاح بهم قبل إكمال فترات ولايتهم. وقد تجاهل السياسيون ميثاق الديمقراطية الذي توصل إليه عام 2006، حينما تعهدوا بالامتناع عن التواطؤ مع المؤسسة الأمنية لعرقلة العملية الديمقراطية، لكنهم كانوا هم أنفسهم من تحالفوا مع الدولة العميقة، في مواجهة خصومهم المدنيين.